خرابيش 13
لحظة فرح
أقفلت خط الهاتف مع محدثي من السودان وأسندت
ظهري ورميت برأسي على ظهر الكنبه وعيوني مازلت
تنضح بالدموع وأنا أحس بها تترقرق
على وجنتي ولساني يلهج ويكرر جملة واحده "الحمد لله" وأنا أسمع عضلات قلبي
ترقص طربا وأخذت رويدا أدرك أن الوقت مازال لم يسمع بعد أذان الفجر وأن أيقاعات فؤادي
هي الوحيده التي تزعج سكون البيت وهدوئه, بنفس عميق أخذت أهدئ من روع ضلوع صدري
وصدى محدثي مازال يدور بجوف أذني وأكرر وأعيد الحمد والشكر لك ياالله على نعمك
وفضلك ورحمتك.
وبينما مازلت في مركز عاصفة الفرحه خطر على
بالي أن أزور بيت ذاكرتي لأبحث فيها بزوايا غرفها عن أكثر لحظات الفرح في حياتي
شيئ شبيه للثواني التي أعيشها وخلف الأبواب وفي بطون الخزائن وعلى الرفوف رأيت
ملفات متعدده لكن أيا منها لم أجد فيه نفس الأحاسيس, نفس الشعور بأنك تملك العالم وبأنك
أكثر المخلوقات حظا وبأنك خفيف كأنك تطير فوق السحاب وأنت تفتح يديك تريد أن تضم
بهم كل الناس لتخبرهم بما أنت فيه من حبور وفرح.
حتى وقع بين يدي ماكان في صيف و خريف عام
1980. كان أخي رائد الأوسط في الترتيب بيننا نحن الخمسة اخوة, والذي يصغرني ببضع
سنين قد أنهى الثانويه العامه في الكويت وقد حصل على نسبة نجاح عاليه وهو الذكي
المعروف بفطنته, لكن هذه النسبه لم تؤهله لدخول جامعة الكويت مع أنه من مواليد
الكويت بسبب سياسة تقليص قبول عدد الطلبه اللذين لايحملون الجنسيه الكويتيه, ومع
جهود والدي رحمه الله بتدخل ووساطة من نعرف ومن لانعرف الا أن القدر كان محتما بأن
ترفض كل وسائل قبوله بالجامعه الوحيده في الكويت وكان هناك مخرج واحد أمامنا بأن
نسلك ونطرق الباب الذي ولج منه الكثير من الطلبه الفلسطينين بالتغرب والدراسه لدى
العم سام في مرابع الولايات المتحده.
نظر الي والدي رحمه الله وفي فمه الكثير من
الكلام فقرار سفر وغربة واحد من فلذات كبده وأكثرهم شبها به بياضا وعصبية وطيبه
يحتاج الى تفكير وتدبير وحساب وبما أنني ابنه البكر والوحيد في الأسره الذي تأهل
وعمل وقد أتى الوقت لأن يختبر قدرتي بأن أكون سندا له عندما يكون سؤال الأختبار
فوق طاقته. ياأبني أنت تعلم مقدار دخلي
الشهري وكل الفروع التي تنضب ماء جريانه فهل تستطيع أن تقف معي فسفر أخوك وأقامته
ومصاريف دراسته ومعيشته مطلوبه منا نحن الأثنين, لسبب ما لم تكن عيناي في العاده
تستطيعان النظر مباشره في عيني أبي, فلم يكن والدي من النوع الذي يسأل وقد كانت معدلات كرامته وعزته عاليه جدا, لكن في داخلي
كانت هناك قوه دافعه جعلت ناظريي يتسمران في عينيي والدي أثناء نطق لساني لعبارات
تأكيد موقفي الأيجابي كنت أريد أن أقول له أنه هذا الوقت الذي تجني به ثمر مازرعت.
كنت في ذلك الوقت في بدايات حياتي المهنيه
فابالأضافه الى عملي كموظف حكومي بجامعة الكويت كنت أعمل كمندوب تأمين ابيع عقود
تأمين على الحياه وقد كانت مهنه تتفق مع شهادتي الجامعيه في أدارة أعمال شركات
التأمين, وقد كانت وظيفه دخلها يعتمد بالكامل على العموله العائده من بيع التأمين
على الحياه, وقد كانت عمولات مجزيه.
طوال شهر كامل من يوم تأكيدي لموقفي أمام
والدي كنت أتابع أحد عملائي المهتم بتأمين مستقبل اسرته, كان عقد التأمين الذي
ينوي شراءه مني يعودعلي بعموله مجزيه تعادل خمسة اضعاف راتب وظيفتي بالجامعه وهو
مبلغ يكفي لشراء تذكرة الطائره لأخي و مايحتاجه للسفر باالأضافه الى مصاريف
التسجيل بالجامعه. طوال شهر كامل كنت أعيش الحلم وأنا أنتقل مع عميلي من وعد الى
أخر ومن أجتماع الى أخر وهو يسوف في قراره وقد تعددت الحجج والأسباب وأنا معها
أخلق المعاذير وأحاول التمني بالأمل وقد اصبحت أراه كسحابة من دخان لاتستطيع
اصابعي أن تمسكه, حتى كان مساء يوم وقد قضيت وقتا في مكتب سكرتيرته حتى سمح لي
بالدخول ليلقي علي قراره بالرفض والغاء الموضوع وصرف نظره عنه.
الصخرة التي رفعتها ودفعتها وقد كنت أمد
برأسي من خلفها لأرى القمه قد أقتربت ولم يبقى أمامي الاالقليل للتربع فوقها سقطت
علي وسحقتني وقد جرتني معها لاستقر في القاع من جديد. رجعت الى البيت وقد أنكمش
قلبي ضيقا وحزنا وهربت عيوني من كل الرؤوس التي رحبت بي وسحبتني قدماي سريعا قبل
أن يلمح أحد ماتخبئه قسمات وجهي من أنكسار وخيبة أمل. مازلت أذكرتلك اللحظات
وكأنها حدثت بالأمس, هاتف ما من داخلي اللهمني أن أتوضئ وأصلي ركعتين لله وبينما
جبتهي خاضعه لجلالته ولساني يسبح بعلوه بدأت الكلمات تتناثر من بركان أنتكاستي تشكو
له مدى ضعفي وحاجتي له وتحكي له وأنا بظل رحمته ماحدث معي وبالأمل الذي تربصت به
كثيرا وهرب مني, وصفت له نبل هدفي وجوهر حاجتي ودموعي تتدفق له شاكية من صدق
مشاعري تترجى منه المخرج والعون والرزق من حيث لا أحتسب. ظللت على ذلك حتى هدأت
نفسي وبرد قلبي. ومن سجادتي الى سريري لا يعلم بسري الا من أودعته أياه.
في الساعة الرابعه والنصف من عصر اليوم
التالي كان لدي موعد مع عميل أخر لم أعرفه من قبل وقد كانت هذه أول مرة أراه بها ,
لم يتعدى الأمر مابين العشرون أو الثلاثون دقيقه كان قد عبئ أستمارة التأمين على
الحياه بمبلغ يفوق ماكانت موعود به, ووضعت
له موعد للفحص الطبي وسلمني شيك بقسطه السنوي الأول وخرجت من مكتبه بالسوق التجاري
قرب قصر السيف بجانب مبنى البورصه الكويتيه, وبيني وبين نفسي لاأعلم هل أنا في علم
أم في حلم, ركبت سيارتي الداتسون الحمراء وقد فتحت كل نوافذها ليتدفق على نسيم
الشاطئ وأنا أسوقها عائدا على شارع الخليج العربي وصوت المذياع يرقص معي فرحا أنظر
الى كل من حولي وكأنهم جميعا فرحون لفرحتي لأعلم كيف وصلت للبيت لكنني أعلم أنني
كنت فوق السحاب ولاتستطيع الكلمات أن تصف روعة الشعور بأن الله معك وأنه راضي عنك.
لقد كانت فعلا من أروع لحظات الفرح التي عشتها بحياتي.
لازلت أذكر أخي رائد وهو يحمل شنطه وشمسيته
مودعا لنا ومتجها للطائره مسافرا الى الولايات المتحده.
لحظة الفرح هذه عشتها اليوم مرة أخرى عندم
وصلتني رساله هاتفيه من أصغر أخوتي بأن أبن عمنا أيمن شوكت غوشه الذي يعمل
بالسودان عندما علم بمرض أخونا رائد من تليف بالكبد بسبب فيروس سي الموجب تقدم
مباشرة ليكون المتبرع الذي نبحث عنه لعملية زراعة كبد لرائد. لقد كنا قد وصلنا الى
مرحله من اليأس عندما مضى وقت على الأعلان الذي طالبنا به من أبناء العمومه
بالتبرع ولم يتقدم أحد, وخصوصا أن ذلك حدث بعد أن كنا قاب قوصين أو أدنى من عمل
العمليه بفضل تبرع أبن عمنا عزام بدر غوشه جزاه الله خير, لكن الفحوص الطبيه اثبتت
أن كبده لايتوافق صحيا مع كبد اخي مما استدعى منا البحث عن متبرع أخر من جديد.
فرحتي بالخبر زادت بفرحتي بحديثي الهاتفي
مع ايمن فمن خلال أصراره وعزمه ومحبته
ونخوته وشهامته عشت لحظات من الزمن مابين أمواج بحر المحبه والرحمه والتراحم,
وأحسست بلطف اللطيف وعظمته وعطاءه.
ومن بين الحمد والشكر لله , فالحمد الله ان
الدنيا بخير وأن هناك الكثير من أهل الخير.
المخربش
رياض غوشه
28 سبتمبر 2012